أذن من طين وأذن من عجين
كتابات
- إبراهيم الزبيدي
ماذا يريد
الناس من حكوماتهم، ولماذا اخترعت البشرية، منذ القدم، فلسفة تغيير الحاكم
بمواعيد مقننة لا تتجاوز أربع سنوات، أو خمسا، ولدورتين من الانتخاب الحر
غير المزور، وغير المدبر، وغير المغشوش؟
من هذين
السؤالين يمكن أن نرى ونسمع ونلمس جسد الدولة ونبصر قلبَها، وهو الحكومة،
هل هو جسد صحيح البنية وناضج وقوي، أم منهك القوى ومختل العقل والحواس
والبصيرة؟ وهل القلب نابضٌ بالحياة أم مُعتل وموشك على الكف عن الخفقان؟
ومن هنا فقط يظهر لنا رحمنُ العدالة والنزاهة والشجاعة والشرف، أو شيطان
النفاق والرذيلة والفساد والظلم والطغيان .
ويحدثنا
التاريخ عن أمم كثيرة هرمت ومرضت ثم ماتت فأعادها إلى الحياة قائدٌ شهم
ونزيه من أشرف عقلائها، وأيقظ شبابها وعنفوانها من جديد.
وعن أمم ٍ
أخرى كانت شامخة َ الهام، عزيزة َ الجانب، وفيرة الخير والصلاح والرخاء،
أذلها واحد من أوسخ أبنائها اختارته للقيادة فعبث بأمنها وبعثر أموالها
وأذل مواطنيها وأفقرهم وشتت شملهم، مهاجرين أو مهجرين، في داخل الوطن، أو
في أرجاء المعمورة الواسعة، وخان الأمانة ونزل بها أسفل سافلين.
حدثني
مسؤول تركي كبير حين سألته عن سر قلة الفاسدين والمختلسين في الحكومة
التركية التي نهضت بالاقتصاد والصناعة والزراعة وجعلت وطنها دولة غنية قوية
آمنة، فقال، عند أول يوم لرجب أردغان في رئاسة الوزارة علم بأن أحد أقرب
مستشاريه إلى قلبه قد اختلس، فأحاله إلى القضاء على الفور، وحلف اليمين
على أنه سيعاقب أي مسؤول يهب لنجدة المختلس، أو يتوسط له، أو يتستر عليه.
ومن يومها وكلُ موظف، كبير وصغير، َيعُد إلى العشرة قبل أن يقبل رشوة أو
يختلس أو يخون.
تخيلوا
ماذا كان سيحدث لو أن صدام حسين ضرب على يد عدي أو علي كيمياوي أو حسين
كامل أو سجودة أو الحاجة بدرة طلفاح عند أول اعتداء على أموال الدولة، أو
عند أول حالة استغلال نفوذ.
ولو امتنع
أعضاء (معينون) في مجلس الحكم عن احتلال قصور المنصور والحارثية والجادرية،
والسطو على البنوك، وتزوير الشهادات، وتشكيل المليشيات.
ولو صادق
أياد علاوي، أولُ رئيس وزراء بعد مجلس الحكم سيء الصيت، على أوامر اعتقال
حازم الشعلان وزياد القطان ولؤي العرس قبل هروبهم من البلاد، ولو اعتقل زوج
اخته نوري البدران وزير داخليته الذي افتتح مسلسل تهريب العملات العراقية
إلى الخارج، ولو منع تهريب أيهم السامرائي من سجنه، ولو نهر أخاه صباح
علاوي من المتاجرة بين لبنان ووزارت العراق المختلفة وشقيقـُه رئيس وزراء.
ولو ضرب
السيد المالكي على يد ولده العزيز أحمد أو على يد (العلوية) إسراء، لخاف
الفاسدون كلهم، وامتنعوا عن السرقة واستغلال النفوذ وتزوير الشهادات،
قائلين، إذا كان السيد القائد لم يرحم أهل بيته ولم يقبل فسادهم فكيف لا
يضرب بيد من حديد على يد المرتشي والحرامي والمزور من خارج ذلك البيت
الكريم؟
ولو أصر
مجلس النواب الشهم الشجاع على محاسبة مام جلال على إنفاق مليوني دولار على
سفرة واحدة إلى نيويورك لأربعة أيام، برفقة أربعة مرافقين فقط، ولو سألوه
عن مصدر ثروة ولده قباد.
ولو ولو
ولو ، والحبل على الجرار، كما قال أجدادنا الأوائل، وهو طويل وطويل وطويل.
ترى هل
يقرأ السيد المالكي هذا المقال؟ أتمنى ذلك من كل قلبي. فكل صاحب قلم يكتب
في الصحافة العراقية والعربية عن العراق الديمقراطي الجديد، حتى لو اتهمه
وزراء المالكي ومستشاروه بأنه حاقد أو حاسد، أو حتى عميل مكلف من الاستعمار
والصهيونية بالتقاط أخطاء الحكومة والمبالغة في تكبيرها وتعظيمها لخلق
البلبلة وتعميق الأحقاد والخلافات والعداوات، فهو يظل نافعا أيضا، لأنه
يكشف مواضع الخلل وأماكن الفساد وأساليب المرتشين والجهلة والمسيئين من
الوزراء والمديرين العامين والكتبة الصغار والفراشين والسعاة. إنها خدمة لا
تقدر بثمن تقدم كل يوم، وعلى طبق من ذهب، للسيد القائد لكي يمسك بخنجره
المصقول ويستأصل الداء من جذوره، ويريح ويستريح.
ولكني أشك.
فرئيس الوزراء لا وقت لديه لقراءة صحيفة، ولا الاستماع إلى إذاعة، ولا
مشاهدة تلفزيون، بل لا وقت لديه لتصفح حتى ملفات وزارات ذاتها، ولا ملفات
الدول الأخرى، سواء العدوة أو الصديقة. فهو مشغول بإدارة معارك البقاء
ومؤامرات أمراء الطوائف وتظاهرات الحاقدين أيام الجمع في ساحة التحرير
واعتقالهم أو اغتيالهم. أما شؤون الرعية فقد أوكل أمورها لمستشاريه الذين
يقدمون له، وحسب الذمة والضمير، خلاصة كل ملف، ويرسمون الحل ويرفعونه إليه
للتوقيع، فيوقع وهو مغمض العينين من شدة ثقته الغالية بالمستشار، فيكون
الحكم الحقيقي، والحالة هذه هو حكم المستشار.
ولي تجربة
سابقة مزعجة. فحين أقام السيد المالكي مؤتمر الاستثمار في واشنطن قبل
سنتين، وأنفق عليه الملايين من الدولارات لجذب المستثمرين الأمريكان
للمشاركة في إعادة إعمار العراق، دعاني السيد السفير فحضرت. هناك حزنت
بشدة، ودخت. جميع أعوان السيد المالكي المرافقين، وبعضُهم وزراء ومدراء
عامون، قابلوني بنفس الحرارة والحفاوة والتبويس، كما كنا نتقابل بها أيام
المعارضة السابقة البائسة، وقبل أن يصبحوا، فجأة، وزراء ومدراء وسفراء
ومرافقين للسيد الرئيس. يومها علمت أن هذا واحد من احتمالين، إما أنهم لم
يقرأوا ما كتبت وما أكتب ضدهم واحدا واحدا، وضد ديمقراطيتهم المغشوشة، وإما
أنهم يقرأون ولكن يطنشون وينافقون. وكلا الاحتمالين مصيبة ورجس من عمل
الشيطان.
مناسبة هذا
الكلام أنني تسلمت أمس بالبريد الإلكتروني من صديق مقالة مضحكة مبكية كتبها
مواطن عراقي مغترب عاد إلى الوطن مصدقا حكومة الشراكة الوطنية ومكذبا جميع
ما يشيعه عنها الكتاب المشاكسون، أمثالي، وعاش بنفسه حقيقة ديمقراطية
الدولة الجديدة، وعدالة وزرائها، ونزاهة موظفيها الكبار والصغار، ثم هرب
عائدا إلى مهجره، يائسا بائسا، ليدعو المهاجرين والمهجرين إلى البقاء في
أعشاش غربتهم، وإن كانت خانقة ومملة وباردة، فهي أرحم من تكسيات الوطن
ووزاراته ومؤسساته المنخورة بالرشوة والكذب والنفاق.
0 comments: