العلامة الدكتـــــــور ....علي الوردي
لم يشهد النصف الثاني من القرن العشرين باحثا شغل العاملين في التاريخ نقدا وتحليلا ودفاعا كالدكتور السيد علي حسين الوردي الذي كتب في (علم التاريخ الاجتماعي) او( علم الاجتماع التاريخي) وقد كانت نقطة انطلاق تعرف الناس بالوردي تعود الى اول كتاب اصدره عن شخصية الفرد العراقي عام 1950 الذي اطلق فيه العنان لفكره المتحرر وقلبه الجريء ليقرر ما يقرر ويستنتج ما يستنتج ثم كانت له مع كل كتاب حكاية الا ان انطفأت جذوة حياته في صبيحة يوم الخميس الثالث عشر من شهر تموز عام 1995 وبالتحديد في الساعة العاشرة والنصف صباحا ودفن في مقبرة براثا ببغداد. فمن هو (علي الوردي)؟ وكيف رسم طريقه ليصل الى قمة الطود في علم الاجتماع من خلال التاريخ للعراق في فترتين عصيبتين من تاريخه وهما: الفترة المظلمة وعصر النهضة فعلى ارض (الكاظمية) سكنت عائلة علوية عريقة تنتسب الى الامام الحسين بن علي بن ابي طالب (ع) عرفت بـ(آل ابي الورد) او (الوردي) نبغ فيها علماء في شتى الاختصاصات العلمية وادباء وشعراء متميزين وفنانون تركوا آثارا متميزة وكان ابرزهم هوالدكتور علي حسين الوردي الذي فتح عينيه لنور الدنيا عام 1913 كما نصت عليه الوثائق الشخصية التي نشرها الوردي نفسه بين الناس واذاع بها في كل مجلس . تدرج في التحصيل العلمي متقلبا في احضان الدراسة الاهلية والرسمية ثم غادر الى بيروت دارسا في الجامعة الامريكية فيها حتى تخرج بدرجة (شرف) عام 1943 .ولم يحده الجنوح الى الدعة عن مواصلة الدراسة فرحل الى الولايات المتحدة الامريكية ليكمل الدراسة في جامعة تكساس وليتخصص في علم الاجتماع حاصلا على شهادة الماجستير عام 1948 ثم على الدكتوراه في الجامعة نفسها والاختصاص نفسه عام1950. وهكذا طرح الوردي نفسه على صعيدي التدريس في جامعة بغداد الجامعة العراقية الوحيدة في بغداد حينذاك، يمارس تدريس اختصاصه وليرق الى درجة (استاذ مساعد) عام 1953 ثم الى (استاذ) عام 1962 حين صار نجما لامعا في اروقة الجامعة يرد اليه الراي والمشورة في (علم الاجتماع) الذي قرنه بالتاريخ والفلسفة وبطريقة جدلية متناهية الدقة فهو لكي يدرس طبيعة المجتمع عليه ان يدرس تاريخه ولكي يفهم هذا التاريخ عليه ان يفلسفه بشكل من اشكال الفلسفة التي كان يؤمن بها حتى لو ادى ذلك الى اتهامه بالسفسطة. وظل هذا لادامة الصلة بينه وبين الجامعة دابه حتى احيل على التقاعد عام 1970 ومنح لقب(استاذ متمرس) تفرغ بعدها لكتابة تاريخ العراق الحديث على وفق المنهج الذي سوف نشير اليه حتى تخرمته يد المنون. وكما ان حياته قد حفلت بالعجيب من الحكايات والاحداث كان ابرزها خصوماته القلمية مع رواد علم التاريخ والاجتماع والمتدينين والملتزمين وغيرهم. فان لسبب وفاته حكاية ايضا تبدا من يوم انشب المرض اضافره في جسمه النحيل عام 1994 فقد واكبت بنفسي مجريات ذلك.فقد شخص الاطباء اصابته بمرض مستعص في مثانته ظل ملازما له لم تجد معه محاولات الاطباء لاجتثاثه فظل يصارع المرض قرابة سنة كاملة لم يياس خلالها من نعمة الحياة التي عرف (رحمه الله) بتشبثه بها حتى اخر ساعة من عمره وكان يردد مقولة دارت مدار النكتة(الاجتماعية) بين اصدقائه والمعجبين بقلمه وهي (ان قلوب السادة اللورد اقوى من ان يصيبها العطب). ولكن ذلك (العطب) كان له بالمرصاد لكن في مكان غير قلبه وهكذا انطفأت شمعته التي ظلت منيرة اكثر من ثمانية عقود فحملت الاكف نعشه تزف الى مثواه الاخير وابنه اصدقاؤه ورائدوا فكره باحتفاليات مناسبة لمقامه الكريم. لقد تصدى(الوردي) للكتابة في كل شؤون المجتمع عادات وطبائع وتاريخ فقد قرأ له الناس عبر ثلاثين عاما ونيف رحلة القلم الجريء كتبه التي سطرها لكي يقول فيها مايريد هو لا مايريده الناس فصدرت له منذ عام 1951 الكتب التالية: 1- شخصية الفرد العراقي: سنة 1951 وهو بحث في نفسية الشعب العراقي في ضوء علم الاجتماع الحديث وقد عنيت بنشره جمعية النشاط الاجتماعي في كلية الاداب والعلوم (آنذاك) وهذا البحث هو نص محاضرة القاها في قاعة كلية البنات (الملكة عالية سابقا) مساء اليوم الثاني من نيسان عام 1951. 2- خوارق اللاشعور: او ( اسرار الشخصية الناجحة). عام 1952 وهو بحث في غوامض العبقرية والتفوق والنجاح وما يسمى بـ(الحظ) عند العامة واثر الحوافز اللاشعورية فيها في ضوء احدث النظريات العلمية(آنذاك) وزقد ذيل طبيعة المجتمع وظروفه). 9- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: (ثمانية اجزاء) صدرت على النحو الآتي: الجزء الاول/ عام 1969 ويؤرخ للفترة من بداية العهد العثماني الى منتصف القرن التاسع عشر. الجزء الثاني/ عام 197صفحة العنوان بكلمة(بقلم: علي حسين الوردي - دكتوراه في الفلسفة) وفي مفتتح الكتاب حذر المستجدين والمدللين والاغرار الذين لم يمارسوا بعد مشكلة الواقع ولم يذوقوا من مرارة الحياة شيئا فالاولى بهم ان لا يقرأوا هذا الكتاب انه قد يضرهم ضرارا بليغا. 3- وعاظ والسلاطين: صدر عام 1954 وهو كتاب اثار حفيظة كثير من المتدينين والملتزمين لما فيه من (الفلسفة السوفسطائية) وقد قال عن كتابه هذا انه بحث صريح في طبيعة الانسان من غير نفاق. وقد تصدى لافكاره عدد من الباحثين والمتأدبين وناقشه بعضهم مناقشة هادئة مدعمة بالدلائل وموضحا حقيقة كثير من افكارالكتاب وقد بلغت الردود اكثر من عشرة هذه التي صدرت في كراسات مطبوعة مستقلة اما الردود على صفحات الجرائد والمجلات فلا تحصى.. 4- مهزلة العقل البشري: صدر عام 1955 وهو امتداد فكري لكتابه السابق ففيه يرد على الكثير من آراء ناقدي ذلك الكتاب وقد نقد فيه المنطق القديم بشكل لايخلو من السفسطة. 5-اسطورة الادب الرفيع: صدر عام 1957 وهو تكملة وتاكيد لآراء في كتابيه السابقين اذ انه مناقشة صريحة حول ادباء السلاطين (كما صرح بذلك في صدر كتابه). 6- الاحلام بين العلم والعقيدة: صدر عام 1959 وقد كان مقررا ان يصدر عام 1957 باسم (لغز الاحلام) وقيل كتابه اسطورة الادب الرفيع ولكن امرا ما جرى صدوره الى عام 1959 . وهذا الكتاب يبحث في موضوع الاحلام من حيث علاقتها بتطورالعقائد الاجتماعية والعقد النفسية وهو يبحث كذلك في اهمية الاحلام من حيث استثمار المواهب العبقرية الموجودة في كل انسان في ضوء (احدث) النظريات العلمية (على حد اعتقاده). 7- منطق ابن خلدون تفي ضوء حياته وشخصيته: مجموعة محاضرات القاها في القاهرة عام 1962 وقد طبعت هناك في السنة نفسها وهي دراسة مستفيضة لمنهج ابن خلدون هذا المؤرخ الذي ارسى علم الاجتماع قبل ان ينشره الغرب بقرون ونظرا لاهمية الكتاب وموضوعه فقد اهتم الباحثون بمباحثه و موضوعاته وصار مرجعا للدارسين العرب والاجانب. 8- دراسة في طبيعة المجتمع العراقي: صدر عام 1965 وهو محاولة تمهيدية لدجراسة المجتمع العربي الاكبر في ضوء علم الاجتماع الحديث وقد اهداه الى (الذين يشغفون بالافكار العالية فيحاولون تطبيقها في مجتمعهم بغض النظر عن 1 ويؤرخ للفترة من عام 1831 - 1872 . الجزء الثالث/ عام 1972 ويؤرخ للفترة من عام 1876 - 1914 . الجزء الرابع/ عام 1974 ويؤرخ للفترة من 1914 - 1918 . الجزء الخامس/ ويقع في قسمين الاول والثاني ويؤرخان لثورة العشرين. الجزء السادس / ويؤرخ للفترة من 1921 - 1924 . ويليها ملحق بالجزء السادس ويتحدث عن (الاشراف) و(آل سعود). ان اهم ما يميز كتابه لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث انه اعطى الوجه التاريخي الناصع للوردي بعد ان كان هذا الوجه يتلون في ثنايا كتبه السابقة بلون يقترب من التايخ ثم يعود ذلك اللون ليتلاشى في عباب علم الاجتماع الذي اتخذه منساة للبحث في كل الموضوعات التي خاضها وهناك كتب وابحاث كان يصرح لهي ولأصدقائه وفي المجالس الخاصة والعامة بانها مخطوطة ينتظر الفرصة المواتية لطبعها وابرزها واهمها هو مذكراته الشخصية فكان يقول انها مهمة وتثير ضجة اذا ما نشرت لهذا كان يقول انه يخشى على حياته اذا ما نشرها فهي موكولة لمورثيه. منهجه في الكتابة لا يستطيع ان يعزل علم التاريخ عن علم الاجتماع بحال من الاحوال فالعلاقة بين العلمين جدلية مذ كان فالتاريخ للمجتمع البشري ودراسة هذا المجتمع لابد ان تستند في تطبيقاتها الى الاحداث التاريخية ان اريد لها ان تكون حية وفي متناول الجميع. اذن لا بد من عالم الاجتماع ان يكون متضلعا في التاريخ محيطا باسراره مستشهدا باحداثه مستندا الى امثلته والا صار علمه محض نظريات جافة جامدة لا يسيغها قارؤها الا كما يسيغ المريض الدواء المر. واذا تصفحنا ما كتب الدكتور علي الوردي في تحليل الظواهرالاجتماعية المختلفة لهذا القطر او ذاك، فاننا سوف نجد انفسنا بازاء عام اجتماعي يؤرخ ويمثل فهو عالم اجتماع بقدر ما هو مؤرخ . واذا استثنينا من مؤلفاته خوارق اللاشعور الذي صدر عام 1952 والاحلام بين العلم والعقيدة الذي صدر عام 1959 فان اعيننا لا تعدوا النظر الا على كاتب يغرق الى ام راسه في غمرات التاريخ قديمة وحديثة ويحلل ويعلل ويستبط وينقد ويهيم حتى (الوجد) كما يقول المتصوفة في اعماق الاحداث التاريخية وقد لا يسلم حتى الكتابان المذكوران خوارق اللاشعور ،والاحلام من فذلكات تاريخية (كما يحلو له ان يطلق عليها) فهو في احلام يتعرض مثلا لسحرة فرعون ولاحداث وقصص من التاريخ الاسلامي وكذا الحال في الكتاب الذي سبقه في الصدور وهو خوارق اللاشعور. وملاك الامر ان الوردي راى في الدقة في العرض الاجتماعي للتاريخ تكمن في التعرف الدقيق على احداثه فيقول: عند دراستي للمجتمع العراقي وهو الموضوع الذي اولعت به زمنا غيرقصير ادركت اني لا استطيع ان افهم المجتمع في الوضع الراهن ما لم افهم الاحداث التي مرت به في عهوده الماضية فكل حدث من تلك الاحداث لا بد ان يكون له شيء من التاثير قليلا او كثيرا في سلوك الناس حاليا وفي تفكيرهم.. وفي وثاقة الصلة بين التاريخ وعلم الاجتماع يقول : كنت قد حاولت في كتابي السابق دراسة في طبيعة المجتمع العراقي دراسة ما كان عليه العراق في العهد العثماني من وضع اجتماعي عام وساحاول الان دراسة الاحداث التناريخية التي وقعت في ذلك العهد ولا حاجة بي الى القول ان هذين الامرين مترابطان ترابطا وثيقا يصعب الفصل بينهما ولذلك سوف يجد القارئ في الكتاب الحالي كثيرا من التحليل الاجتماعي كمثل ما وجد في الكتاب السابق كثيرا من السرد التاريخي.. وفي هذه المقارنة يريد الدكتور الوردي ان ينبه ان كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي انما هو كتاب علم الاجتماع اصلا ولكنه نمقه بالتاريخ شاهدا او امثلة. اما هذا الكتاب (ويعني به: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) فهو يوحي من عنوانه بانه كتاب تاريخي ولكن القارئ سوف يجد فيه كثير من التحليل الاجتماعي للأحداث التي يؤرخ لها. وفي الوقت الذي نجده فيه يؤرخ ويدقق في تاريخه كما يفعل المؤرخون الا انه لا ينسب نفسه اليهم الا بالقدر الذي يعتمدهم فيه على تعرف الاحداث والوقائع فيقول: اني لست مؤرخا انما اعتمد ما اكتب على المؤرخين وقد عانيت في ذلك صعوبة غير قليلة اذ ان تاريخ العراق في العهد العثماني لا يزال يكتنفه الغموض من بعض نواحيه ولا بد للباحث من التحري في كثير من المراجع لكي يعثر على حادثة لها دلالتها الاجتماعية او الفكرية... لقد ظن الناس زمنا ان الوردي مؤرخ في كتبه او في نتائج ابحاثه وانه يتطفل على التاريخ حينما يروي روايات ويقارن في وثائق المراحل وهؤلاء يظلمون الوردي بل يظلمون علمه فهذه الوثائق والروايات التي تمتزج امتزاجا في كتبه ويظن الناس انها التاريخ ما انبسطت في هذه الكتب الا ادلة يبنى عليها تفسير الظواهر الاجتماعية ادلة ليست لذاتها كما يفعل المؤرخ فيها وانما هي مواد خام يدرس علاقتها بالظواهر الاجتماعية التي تطفو على سطح التاريخ او تنزل اليه بمواطنه. ومن هنا كانت الوشيجة المتناثرة بين علم الاجتماع والمؤرخ فعالِم الاجتماع يتصيد ما لا يتصيده المؤرخ والمؤرخ يسجل ما لم يسجله عالِم الاجتماع والمسافة بينهما هي المسافة بين الكل والجزء فالكل حصة المؤرخ من التاريخ بينما الجزء حصة الباحث في ظواهر المجتمع .. والكل هو الكليات في التاريخ والجزء هو الشيء الخفي في هذه الكليات لنقرب هذا المثل المنطقي . فالوردي مثلا كتب عن تاريخ المماليك في العراق وهم الذين حكموا العراق اثنتين وثمانين سنة(1749 م1831م) وحين نقارن بين هذا الذي كتبه عنهم وما كتبه احد المؤرخين (وليكن ستيفنس لونكريك في كتابه المشهور: اربعة قرون من تاريخ العراق او عباس العزاوي في كتابه تاريخ العراق بين احتلالين نجد فرقا كبيرا فان لونكريك والعزاوي قد درسا الاحداث لذاتها اما عالم الاجتماع الوردي فدرسها لما فيها من تصوير للواقع الاجتماعي الذي كان الشعب العراقي يعيشه في تلك الفترة... هذه الناحية في العلم وثم ناحية اخرى هي ان المؤرخين يركزون اهتمامهم على دراسة الاحداث والشخصيات الكبيرة ولا يعيرون اي اهتمام للصغيرة منها بينما الباحث الاجتماعي قد يفعل العكس من ذلك احيانا فبعض الاحداث والشخصيات قد لا تكون مهمة من الناحية التاريخية وانما تكتسب اهميتها من الناحية الاجتماعية انه يحلل ويعلل ويشرق ويغرب ويفسر طبيعة تركيبة اجتماعية ما من خلال قصة قد لا تكون لها اية قيمة تاريخية لنستمع اليه من موقف يمثل الشاهد على ذلك ففي حديثه عن طبيعة علاقة الانكليز بابناء العراق بعد احتلاله من قبلهم عام 1914 وما بعده يقول الوردي: كان الانكليز منذ بداية الاحتلال يحاولون اقناع الوجهاء ورجال الدين وابناء الاسرالمعروفة بدخول الوظائف بغية جعلهم واجهة حسنة لحكمهم وصاروا يغرونهم بالمرتبات العالية والامتيازات الخاصة ولكن اكثرهم لم يستجيبوا لرغبة الانكليز بالرغم من تكرار الالحاح عليهم وارسال الوسطاء مرة بعد مرة. يصور لنا (اسماعيل الواعظ) في مذكراته شدة الالحاح الذي سلط عليه الانكليز لكي يقبل بوظيفة دينية عقب عودته من الديوانية الذي كان مفتيا فيها، فهو يقول ان كوكس ارسل اليه يطلب فيها مواجهته وحين ذهب اليه رحب به كوكس واكرمه ولم يدخن بحضوره احتراما له ثم ساله عن احوال الديوانية وموظفيها وكلف ان يعود مفتيا فيها كما كان في العهد التركي ولكن(الواعظ) اجاب بالرفض فاصر عليه كوكس وقال له: كن مفتيا ولا تذهب الى الديوانية حتى تامن الطرقات والبلاد واصر (الواعظ) من جانبه على الرفض ثم خرج من عنده وقد استدعاه كوكس بعد ذلك مرتين لاقناعه بقبول الوظيفة من دون جدوى ثم استدعاه (الامس بيل) من اجل ذلك ايضا وعرض عليه ان يكون قاضي البصرة بمرتب شهري قدره(450) روبية وتخصيص دار له من دور الحكومة مع اعطائه تموينا لحاجاته البيتية. وبعد مدة اعاد كوكس عليه الكرة وعرض عليه وظيفة القضاء في البصرة او الحلة او بعقوبة او رئاسة الجزاء في اي محل يختاره ويقول (الواعظ) انه قابل كل هذه العروض بالرفض.. مسألة تاريخية قد تبدوا قليلة الاهمية في نظر المؤرخ ولكن (الوردي) الباحث الاجتماعي يعلق عليه اهمية كبيرة في تحليل ظاهرة اجتماعية بالغة الحساسية وهي رفض الكثير من العراقيين قبول وظائف المحتلين الانكليز على الرغم من كثرة المغريات التي رصدها لهؤلاء فهو يقول:يمكن تعليل هذا الموقف السلبي الذي اتخذه الكثيرون ازاء الوظيفة في بداية الاحتلال الى الاسباب التالية: اولاً:خوفهم من عودة الاتراك الى البلاد والانتقام منهم على نحو ما فعلوه في الكوت، وقد كان اعوان الاتراك في بغداد يدأبون على نشر الاشاعات القائلة بان الاتراك لا بد عائدون وانهم قد اعدوا جيشا عرمرما في سبيل ذلك. وقيل ايضا: ان الاتراك سيعودون حتى في حالة خسرانهم الحرب لان المانيا وعدتهم بانها تسترجع العراق لهم مقابل اعادة بلجيكا الى الحلفاء. ثانيا: كان الكثير من الناس في بغداد لا يزالون تحت تاثير حركة الجهاد نفسيا فكانوا يعتبرون قبول الوظيفة في ايام الاحتلال الانكليزي امرا محرما من الناحية الشرعية اذ هو بمثابة التعاون مع الكفار وقد صارالناس ينظرون الى من يقبل الوظيفة في تلك الايام نظرة لا تخلو من تهمة وارتياب. ثالثا: ان الازدها ر التجاري الذي عم الاسواق حينذاك جعل الكثير من الناس يفضلون الكسب الحر على الوظيفة فقد انفتحت ابواب الرزق على مصراعيها امام التجار والزراع واهل الحرف وغيرهم ولو ان الاسواق كانت كاسدة لنسي الناس امور الحلال والحرام وانهالوا على الوظيفة ينهلون منها نهلا على نحو ما فعلوه بعد مدة غير طويلة من الزمن. اننا لا نريد ان نناقش الوردي في هذا الراي الذي له ما له وعليه ما عليه فهو رايه على كل حال ولكننا نرجع بذاكرة القارئ الى ان هذا التحليل الاجتماعي العريض استقاه الوردي من قصة تاريخية بسيطة في تركيبها واحداثها واهميتها وتتلخص في رفض قاضٍ قبول وظيفة عرضها عليه المحتلون الانكليز في حينه. والحال عينه حين يدرس الوردي جانبا من سيرة (شقاوة) في العهد العثماني فهو لم يدرسهم ككائنات تعيسة كما يصفهم بذلك علم الاخلاق او علم اللاهوت وانما يدرس فيهم شريحة اجتماعية مثلت مرحلة اجتماعية معينة في سير التاريخ ولكن المؤرخين لم يعيروا هذه الكائنات اهمية ولا يكتبون عنهم شيئا. فتشكل التاريخ في كتبه تشكيلا اجتماعيا محضا وبعبارة : ان المؤرخ سيقرئ الاحداث التاريخية والوردي يحاول تعليلها. ثمة اتجاه آخر نلحظه في (الوردي المؤرخ) يتمثل في دقة تحليله للشخصيات المهمة التي لها دور بارز في صنع التقاليد الاجتماعية او تكريسها ومناهضتها حتى لو لم تمثل تلك الشخصيات دورا كبير الاهمية في مجريات الاحداث لذلك فهو يهتم بها اكثر من اهتمامه بعرض الحدث التاريخي احيانا. فهو يرى ان الشخصية البشرية هي قمة الكون اي انها ارقى خلق الله فهي اخر حلقة في تطور الكون حتى الآن. لقد تبحر الوردي في الشخصية التاريخية وكان يخرج من كل تبحر بنتيجة واحدة انه ينبغي ان نكون بسطاء في محيطنا وكلما كنا بسطاء نحو عالم الشخصية توضحت امامنا اسرارها وقد يقوده نزوعه الى تحليل الشخصيات التاريخية في كثير من الاحيان الى ميل الاتيان بجديد عن تلك الشخصية في رأي يثير حوله قتام الحرب القلمية على صفحات الجرائد والمجلات او في المنتديات الادبية او بين طلبة العالم.. واغلب الظن ان كثيرا من تلك الاتجاهات المستحدثة في الرأي والتحليل ينظر الوردي اليها وفي نفسه من صحتها شيء..! لذلك فهو لا يملك ما يريده به على اولئك المنتقدين سوى السكوت بدعوى(تفاهة الاعتراض وعدم احلية للجواب) او بدعوى (ارادة الموضوعية في البحث العلمي والتجرد في النظر الى الاشخاص لانهم بشر مهما كلف الامر). لقد طرح الوردي في الجزء الثالث من كتابه لمحات اجتماعية تحليلا يربو على خمسين صفحة لشخصية المفكر الاسلامي المعروف(السيد جمال الدين الافغاني) حاول ان يثبت فيه بادلة قاطعة انه ايراني وليس افغانيا بعد ان ساق الحجج والبراهين على صحة ذلك الادعاء. التحليل الاجتماعي للشخصيات التاريخية والاحداث سمة لازمت الوردي في كثير مما كتب وقد ضربنا بعض الامثلة على ذلك في ثنايا هذا البحث المتواضع وهذا وجه الاختلاف بين المؤرخ المحض وعالم الاجتماع المحض من جهة وبين المؤرخ الاجتماعي من جهة اخرى.ونحن كثيرا ما نجد يستثير القارئ لكي يفكر ويحلل ويستنتج ما شاء له مستواه الثقافي وسعة افقه التاريخي ان يستنتج وما دام الوردي يؤمن ايمانا قاطعا بان كل انسان يستثمر الحدث التاريخي لمصلحة اتجاهه العاطفي والاجتماعي لا يحيد عنه فقد صار فرض الاستنتاجات عليه سفسطة بل مراء لا طائل من تحته. وحين اضطر الى ان يكتب عن تفسير ظواهر عقلية حكمت العصر الحديث وما قبله في مهزلة العقل البشري علق على الكتاب تحت عنوان بقوله: محاولة جديدة في نقد المنطق القديم لا تخلو من سفسطة ويخيل لي ان من المجدي ان اختم الفصل بتحليله لشخصية الملك فيصل الاول وتقييمه لوضع العراق ابان فترة حكمه يقول الوردي: بعجبني في فيصل الاول انه سار لانهاض العراق على طريقة معتدلة لا افراط فيها ولا تفريط فهومن جهة لم يجمد مع الجامدين الذين يريدون ابقاء القديم على ِقَدَمه وهو من الجهة الاخرى لم يندفع مع المجددين اندفاعا طائشا انه سلك طريقا وسطا وكان ذلك من اسرار نجاحه. كان الوردي في معتقده بفيصل الاول متاتيا من ايمانه بتطور المجتمع العراقي ومسايرته للعالم المتحضر الذي سبقه في التقدم فكانت نهضته نهضة تدريجية هادئة بعيدة كل البعد عن الطفرة العشوائية. هكذا هو منهج الوردي في البحث التاريخي كما هو في البحث الاجتماعي متاثرا باستاذه الذي اقتدى بآرائه العالم والمؤخح ابن خلدون انه يفلسف الاحداث التاريخية فلم يكتف برواية الحدث بل يدرس الاسباب والمسببات والنتائج والاهداف فهو مؤرخ اجتماعي بكل ما في هذه العبارة من معان. ومدلولات انه من القلائل الذين انجبتهم الامة العربية في تاريخها الحديث وهو يعتبر مدرسة تاريخية قائمة بذاتها من بين المؤرخين الاجتماعيين العرب. ومن هنا فلا غرابة اذا ما تعدت شهرته الوطن العربي الى العالم واصبحت اراؤه وافكاره في دراسة التاريخ الاجتماعي للعراق بخاصة من المكانة الرفيعة والمنزلة العالية التي ُيركن اليها ويشار اليها في الابحاث العلمية التي اعتمدت في سائر المؤسسات المتخصصة في الدراسات التاريخية والاجتماعية في العالم. رحم الله الوردي وتجاوز عن خطيآته جزاء ما قدم للمعرفة والعلم من افكار وابحاث ونتائج.
0 comments: