لي كوان يو حاكم مدينة الأسد وديكتاتوريات العرب
سنغافورة أو سنغابورة باللغة المحليَّة للبلاد، كلمةٌ سنسكريتيَّةٌ قديمةٌ تعني مدينة الأسد، كانت تقع تحت سلطة الانتداب البريطاني حتى الربع الأخير من عام 1963، وقد حصلَت على حقِّها في الحكم الذاتي عام 1959، لتدخل ضمن الاتحاد الماليزي عام 1963، ثم لا تلبث أن تنفصِلَ عن سلطة كوالالمبور بناء على تصويت البرلمان الماليزي عام 1995، لتعلِنَ الاستقلال ولتبدأ خوضَ معارك التنمية التي قادها لي كوان يو كأوَّل رئيس وزراء للبلاد التي تعتبَرُ إحدى أصغر دول آسيا وتتألَّف من مجموعةٍ من الجُزُر المتناثِرة.أتَى القدَر برجلٍ واجَهَ العديدَ من المشاكل كان أوَّلُها الفساد المالي والبطالة وأزمة السكن فضلاً عن الأصول المتعدِّدة بين الأصول الصينيَّة والمالاويَّةِ والهنديَّةِ والأوروآسيويَّة، ليطرحَ الشعار الأكبر والأهم في تاريخ سنغافورة الحديث، سنغافورة أوّلاً وبهذه الخلطة السريَّةُ أسقطَ كل الانتماءات الضيِّقةِ ليكون قائداً لشعبٍ مُتعدِّد المنابت ليصلَ به إلى الهدف الأسمى في بناء البلاد.
وطن الغرامات
سنغافورة كانت بلداً يفتقر إلى أدنى مُقوِّمات الحياة حين اعتلى لي كوان يو كرسيَّ رئاسة الوزراء حيث شحّ المياه و نقص الموارد الصناعية والتجارية مقارنةً بجيرانها فلجأ الزعيم الشاب إلى الثروة الحقيقية في الاعتماد على الإنسان الذي يبني الأوطان، ومن هنا بدأ بإعادة صياغة المنظومة الأخلاقية للبلاد التي تُعاني من الانهيار الكلِّي في ذلك الوقت حتى باتت تُعرَفُ بوطن الغرامات حيثُ فرضَ غرامات مالية أو جنائية على كلِّ من يُخالِف القانون الذي تَساوى تحت خطِّهِ الجميع دون استثناء بدءاً بأعلى هرم الدولة ووصولاً إلى أبسط المواطنين، ومن هنا فقد عمل الزعيم الجديد على إعلاء شأن الإنسان الذي أدركَ أنَّ قيمتهُ تكمن في العطاء ضمن قالبٍ جماعيًّ واحد فإذا تعارضَت المصلحة الجماعيَّةُ مع حريَّةِ الفرد فإن مصلحةَ الفرد تسقُطُ لصالح الجماعة.
في تمام الساعة الثالثة وثمانِي عشرَة دقيقة من فجر يوم الاثنين الموافق للثالث والعشرين من مارس 2015 توقَّفَ قلبُ الرجل الذي حكمَ سنغافورة كأطول رئيس وزراء في العالم لفتراتٍ متتالية، فقد وُلِدَ لي كوان يو في السادس عشر من سبتمبر عام 1923 في سنغافورة من عائلةٍ ترجع إلى أصول صينيَّة، وتلقَّى تعليمَهُ الجامعي في جامعة كامبردج في المملكة المتحدة حيثُ استطاع إنهاء دراسة القانون فكان خيرَ من حافظَ على حقوق السنغافوريين منذ تأسيس دولتِهِم رغمَ كل الانتقادات التي وُجِّهَت له على أنَّهُ يؤمن بالمركزية والسلطة المطلَقة. بعد إنهاء دراستهِ الجامعية عاد إلى سنغافورة ليصطدمَ بالواقع الأليم حيث كانت تلك البلاد تغرقُ في الجهل المُطلَقِ والفساد المُستشري وانعدام الثقافة الشعبية وأمام كل هذا الدمار أشعل شمعةً واحدةً فقام برفقةِ بعض أصدقائهِ من خرِّيجي بريطانيا في منتصَفِ الخمسينات من القرن الماضي بتأسيس حزب العمل الوطني ذي الصبغة الاشتراكية حيث كان لي هو الأمين العام الأوَّل للحزب وليكون بناءً على ذلكَ بعدَ عدَّةِ سنوات رئيس وزراء البلاد لمدة خمسة وعشرين عاماً متواصلة.
في بداية حكمِهِ لسنغافورة واجهَ لي كوان يو كل العقبات بدءاً من نيل الاعتراف العالمي بالدولة الوليدة الجديدة وصولاً إلى بناء خطٍّ أوَّل للاقتصاد العالمي رفيع المستوى فكانت سنغافورة البلد الواقع جغرافياً في مصاف العالم الثالث الآخذ مبادرة قيادة الصفِّ الأول في اقتصاد العالم أجمع بعد أن وصلَت إلى المرتبة الخامسة في أغنى دول العالم من حيث الاحتياطي المالي برصيدٍ تجاوز 170 مليار دولار أميركي.
البدايات الصعبة
الخطوةُ الأولى التي اتَّخذها الزعيم الشاب كانت بناء الجيش مُعتَمِداً على أبناء الشعب السنغافوري ومواطنيهِ الذين التزموا معه بالإيمان الكلِّيِّ بضرورة النهوض وتحدِّي المستحيل وخوض غمار التحدي حتَّى النهاية، ونظراً لانعدام الثقافة الشاملة بين المجتمع وسيطرةُ الرغبةِ المطلقَةِ على كسر القانون فقد سنَّ قائد الحزب الجديد الحاكم قوانين صارمةً لا تقبلُ المساس وبدأت عمليَّةُ استئصال الفساد المُسيطِر على كل مفاصِل المجتمَع، فكانَ النظام التعليميُّ الجديد الذي اعتمد اللغة الإنكليزية لغةً رسمية للبلاد بعد إسقاطِ كل الانتماءات الضيِّقة مع الحفاظ على خصوصيَّتِها الكاملة، وهنا تبرزُ أهميَّةُ التعليم في بناء المجتمعات حيث استثمر لي كوان يو في الجيل الجديد الذي سيكون عليه تحدي المستقبل والاستمرار بالبناء على كل الملفّات التي أسَّس لحلِّها.
في سياستِهِ الخارجية التزم لي كوان يو بسياسة عدم الانحياز بعيداً عن كلِّ الصراعات الإقليمية والعالمية، فبنى علاقات متوازنة مع الجميع دون استثناء مبرزاً اهتماماً بالغاً بالجانب العسكريِّ لبلاده وتبادل الخبرات الهامَّة مع مختلف الأطراف وعلى ذات المستوى كان اهتمامه الكبير بالاقتصاد منذ استلامه السلطة وحتى مغادرتِها، وهذا ما برز جليّاً في دخل الفرد العادي الذي كان بمستوى 350 دولارا أميركيا عام 1965 ليصل إلى أكثر من 25 ألف دولار عام 2011 وليتفوّق على هذا الرقم كاسراً حاجز الثلاثين ألفاً عام 2013، بينما كان الدخل القومي لسنغافورة التي تتألَّف من ثلاثةِ وستين جزيرة أكبرُها الجزيرة التي تحملُ اسم البلاد أكثر من 253.7 بليون دولار أميركي عام 2009، وهذا الرقم يفوق الدخل القومي لجميع الدول العربية غير المنتجة للنفط، وهذا يضعُنا أمام مفارقة هائلة إذا علِمنا أنَّ دخل سنغافورة من قطاع الزراعة يساوي صفرا بينما يصل مستوى دخلها في الصناعة إلى ما يقارب 27 بالمئة بينما تتوزَّع النسَبة الباقية على قطاع الخدمات، وهذا هو سرُّ نجاح الحكومات المتعاقبة التي رأسها لي كوان يو، في جعل الاقتصاد مفتوحاً أمام الجميع في سلطةٍ مركزيَّةٍ صارمةٍ للدولة.
في كتابِهِ “قصة سنغافورة- مذكّرات لي كوان يو” وفي أغلبِ لقاءاته الصحفيَّة يروي الزعيم السنغافوريُّ الظروف الخاصة لنشأتِهِ في بيئةٍ صعبةٍ للغاية انعكسَت على طبيعتِهِ الهادئة البعيدة عن الانفعال أو اتخاذ القرارات تحت تأثير الغضب وهذا ما جعلَهُ مبتَعِداً عن العاطفة طيلةَ فترة حكمهِ التي تعاقبَت في العديد من الدورات الانتخابية إلى أن تخلَّى طوعاً عن إدارة السلطة عام 1991، ليؤسِّس بذلك لحكمٍ جديدٍ أدارَهُ من بيتِه بصفتِهِ الوزير الأعلى الذي يعود لهُ رئيس الوزراء في كل القرارات ورغمَ الانتقادات الدائمة لنظام حكمِ سنغافورة إلا أنَّ لي كوان يو يفتخرُ بخلوِّ بلاده من الأيديولوجيات المُعلَّبَة خلا ما كان يطلِق عليها أيديولوجيّة سنغافورة الوحيدة بصفتِها الآلية الناجعة الوحيدة التي تعمَل غامزاً إلى أولئك الذين ينتقدون التضييق على الحريّات العامَّة في سنغافورة وإدارتِهِ للبلاد في الخفاء بأنَّه لن يُغامِر أو يسمَح بتراجع ما تمَّ تحقيقهُ من إنجازات خلال فترات رئاستهِ للحكومة.
في ظلِّ تأسيسهِ للدولة السنغافوريّة ومؤسساتها العديدة وحتى بعد وصول ابنه الأكبر لي هوسين إلى كرسيِّ رئاسة الوزراء فقد عمل الأب المؤسس دون كللٍ أو ملل لترويج ما أسماهُ القيم الآسيوية والتي تتمثَّلُ في حملةٍ مُجتمَعيَّةٍ توعويَّةٍ سلوكيَّةٍ تقومُ على معارضةِ القيمِ الغربية التي تقدِّسُ حريَّة الفرد وتؤمن بها وتدعمها حتى على حساب القيَم المجتمعية بينما لا تمنح القيم الآسيوية التي دعا لها الزعيم السنغافوري القيمة المطلقة لحريَّة الفرد فقيَمُ المجتمعِ ونظامَهُ الأخلاقي والسلوكي أهمُّ من الحريَّاتِ الفردية و أمام كل الانتقادات التي تمَّ توجيهُها لهذه الدعوات إلا أنَّ لي كوان يو أدار ظهرَهُ لها معتبراً أنَّ ما يقولُهُ السنغافوريون هو الأهم.
يستعرضُ لي كوان يو الفكرةَ الأزليَّة القائلة بأنَّ هناك كتبا تعلِّمُ الإنسانَ كيفَ يُشيدُ منزلاً ولكن لا توجد مؤلَّفاتٌ حول كيفيَّةِ بناءِ دولةٍ انطلاقاً من مجموعةٍ من المهاجرين القادمين من الصين والهند البريطانية وجزر الهند الشرقية الهولندية أو كيف يكسبُ شعب هذه الدولة الجديدة لقمةَ العيش لاستمرار الحياة، وقد وضعَ هذا الكتاب كما قال في متنِهِ لجيل الشباب الجديد من السنغافوريين الذين اعتبروا أنَّ الاستقرار والرخاء والتطوُّر أمر بديهي، فقد أراد منهم أن يُدرِكوا تلك المشقَّات التي بذلَها الأوائل لينقلوا بلادَهم من مصاف العالم الثالث كدولةٍ تكادُ تكون معدومة الموارد إلى دولة تتحكّم في اقتصاد العالم من خلال العزم والتصميم والإرادة الصلبة لبلوغ الهدف السامي العظيم مهما كانت الصعوبات والإمكانيات. فالإنسان يتخطّى المستحيل إن أراد، وهو هنا يحيل الجيل الجديد إلى القدوة والنموذج الصالح في الاقتداء بالحياة العملية ليضمنَ استمرارَ نهجِه الذي عادَ على سنغافورة بالتقدُّمِ والرخاء، هذا الكتابُ الذي تداولهُ العديدونَ من زعماء ما يُعرَفُ بالعالم الحر بشغفٍ رغم انتقاداتِهِم الدائمة لمصادرةِ الحريّات الفردية في سنغافورة.
الديكتاتور الشرقي و لي كوان يو
رحل لي كوان يو بعد رحلةٍ حافلةٍ بالبناء امتدت أكثر من تسعين عاماً، رحلَ بعد إصابتِهِ بالتهابٍ رئويٍّ حاد رقدَ على إثرهِ في المشفى منذ فبراير الماضي، تاركاً ابنه الأكبر في قيادة البلاد التي أسَّسَها بكل حذر مخلِّفاً اقتصاداً قويَّاً متيناً وشعباً يتحلَّى بأعلى القيَم السلوكيةِ والأخلاقية في العالم، هنا تبرز مقارنةٌ لا بدَّ من ذكرها والمرور عليها فسنغافورة ليست بعيدةً كلياً عن الصورة النمطيَّة للدول العربية غير النفطية التي تقلُّ فيها الواردات الطبيعية في حين تنعدم في سنغافورة، ويحكمها كما تلك البلاد حزبٌ واحدٌ قائدٌ لكلِّ شيء، ولكن يستشري فيها الفشل المؤسساتي الذي يسيطر عليه الفساد وتغلُبُ عليه فضائح الرشوة المالية على كلِّ المستويات، فسنغافورة ليست بعيدةً عن دول الشرق في التعاطي مع الحريّات العامة فقد وضعتها الإيكونومست في مؤشِّر الحريَّة الذي تُصدِرُهُ في المرتبة الثانية والثمانين من قائمةٍ تضمُّ مئة وسبعِا وستين دولة، بمرتبةِ هجين وهي المرتبة الثالثة في سلَّم الحريات العالمي الذي يتألَّفُ من أربع مراتب، وهنا تتضحُ الصورة أكثر فلي كوان يو يُشبِه الديكتاتور العربي بإحكام قبضتِهِ على الحريّات والسلطةِ معاً ولكنَّهُ يفعل ذلك لتحقيق النماء والتطوُّر وبقاء الشعب في حيّزهما بينما يستخدمُ الديكتاتور الشرقي كلَّ موارد البلادِ التي تفتقدُها سنغافورة لخدمتِهِ وحاشيَتِهِ فقط غير عابئٍ بكل التراكمات التي أدَّت إلى الانفجار اليوم ويرحلُ ليحملَ الشعبُ من ذكراه الألم والقهر الذي سبَّبَهُ لهم في حياتِهِ ومماتِه.
0 comments: